كتاب "الرحلة الحجازية"
مؤلف الكتاب: هو "محمد لبيب البتنوني" وهو كاتب مصري له اشتغال بالأدب والتاريخ، وتُوفِّي بالقاهرة سنة 1357هـ=1938م.
ويعتبر كتاب "الرحلة الحجازية" تسجيلا لرحلة معروفة قام بها الخديوي عباس حلمي لأداء فريضة الحج سنة 1327هـ= 1909م، وقد صاحب الخديوي في حجه عدد من كبار رجال الدولة أمثال: "أحمد شفيق" باشا المؤرخ المعروف، وأحمد خيري ناظر الأوقاف، والشيخ "محمد شاكر" وكيل مشيخة الأزهر الشريف.
وكان ضمن حاشية الخديوي الشاعر الكبير "أحمد شوقي"، لكنه تخلف عن هذه الرحلة، ثم اعتذر للخديوي حين عودته من الحج، فقبل اعتذاره لمكانته عنده، وقد كتب أحمد شوقي قصيدة خالدة بهذه المناسبة بعنوان "إلى عرفات"، منها:
إذا زرت - يا مولاي- قبر محمد
وقبَّلت مثوى الأعظم العطرات
وفاضت مع الدَّمع العيون مهابة
لأحمد بين الستر والحجرات
وأشرق نور تحت كل ثريَّة
وضاع أريج تحت كل حصاة
فقل لرسول الله: يا خير مرسل
أبثك ما تدري من الحسرات
شعوبك في شرق البلاد وغربها
كأصحاب كهف في عميق سبات
أحداث الرحلة
الخديوي عباس حلمي
ذكر مؤلف "الرحلة الحجازية" أن عباس حلمي خديوي مصر كانت تتوق نفسه إلى أداء فريضة الحج، وأن هذه الأمنية كانت تتردد في نفسه من عام إلى آخر حتى حسم أمره، وعزم على أداء الفريضة في سنة 1327هـ=1909م وفي صحبته والدته وكثير من أميرات الأسرة المالكة.
وقد تتبع المؤلف أحداث الرحلة منذ أن تحركت من القاهرة في صباح يوم 29 من ذي القعدة 1327هـ=12 من ديسمبر 1909م حتى نزولها بمكة في الثالث من ذي الحجة، ووصف موكب الخديوي وهو يدخل مكة من باب جرول حتى دخل الحرم المكي، وطاف طواف القدوم، وخرج إلى السعي بين الصفا والمروة.
ويذكر أن عباس حلمي لم يتجرد عن فخامته فقط، بل عن مظاهر الدنيا بأجمعها. كما يذكر أنه سعى بين يدي الله سبعة أشواط، وبعد السعي قصد دار الإمارة التي أعدت لتكون مكان إقامته مدة وجوده في مكة، وهذه الدار كان قد بناها "محمد علي" والي مصر سنة 1228هـ لتكون مقرا لحكومة الحجاز.
وأقام البتنوني بمكة في صحبة الخديوي عباس، يزور معه معالم مكة وآثارها، حتى خروج الحجاج إلى عرفات في التاسع من ذي الحجة، ويصور بقلمه هذا المشهد تصويرا بارعا، "حيث يتحرك المحملان المصري والشامي إلى منحدر جبل الرحمة، ويصعد خطيب عرفة بناقته وهو في الغالب قاضي مكة من قبل السلطان العثماني، إلى صخرة في صدر هذا الجبل، ويخطب نيابة عن السلطان خطبة يُعلم الناس فيها مناسك الحج، ويكثر فيها من الدعاء والتلبية، ومن دونه مبلغون بأيديهم مناديل يشيرون بها في كل تلبية إلى الواقفين دون الصخرة، فيهتف الجميع: "لبيك اللهم لبيك".
ويصور المؤلف هذه الساعة الممتلئة بالمشاعر الصادقة الفياضة، والتضرع الخالص بقوله: "فيا لها من ساعة ترى الناس فيها قد تجردوا بالمرة عن أنفسهم فلا يكادون يشعرون بما يحيط بهم من معالم الحياة، وقد تغلب وجدانهم على وجودهم، حتى كأنهم في لباسهم الأبيض الطاهر النقي ملائكة الله في هذا الوادي الذي يردد صدى أصواتهم وابتهالاتهم إلى واجد الوجود، إلى الملك المعبود.. ثم يعود إليهم صدى هذا الصوت فيحدث في نفوسهم هزة تدق لها قلوبهم، وتضطرب منها أفئدتهم خشية من رب الأرباب".
والمؤلف في أثناء ذلك يسجل موكب الخديوي الذي خرج في صباح يوم التروية من مكة إلى عرفة، وهو بملابس الإحرام راكبا جواده، ومن خلفه رجال معيته وحاشيته، فوصلها في الرابعة ظهرا وظل واقفا مع كبار رجال دولته حتى نفر الناس فنفروا معهم إلى المزدلفة، وبعد صلاة الصبح نزل في موكبه إلى منى فرمى جمرة العقبة، وذُبحت الأضاحي بحضوره، وتحلل من إحرامه، ثم نزل إلى مكة بموكب حافل ومعه أميرها، فصليا العيد في الحرم الشريف.
في المدينة المنورة
وبعد أن انتهى الخديوي من أداء مناسك الحج ذهب بموكبه الحافل إلى المدينة المنورة، ودخل ومعه بعض رجال دولته المسجد النبوي من باب السلام، وزار الروضة الشريفة.
ويذكر البتنوني أن الخديوي كان مدة وجوده بالمدينة يكثر من الصلاة في الحرم، ولا تفوته صلاة، ويقوم بخدمة إسراج القناديل الموجودة في الحجرة النبوية الشريفة، وإطفائها في الصباح، وكانت هذه الخدمة مما يحرص عليه الأمراء والعظماء وغيرهم من أعيان المسلمين في أثناء زيارتهم للمسجد النبوي.
أما عن المؤلف فقد تحدث عن تجربته الروحية وهو يدخل المسجد النبوي، ويزور الروضة الشريفة، فيقول: "وصلينا ركعتين في الروضة الشريفة تحية للمسجد، ثم خرجنا إلى الرواق القبلي، واتجهنا إلى المقصورة الشريفة، وتمثلنا بمنتهى ما يمكن من الخضوع والاستكانة أمام أول باب منها تجاه مسمار من الفضة جعل أمام الكوكب الدري الذي وضع فيما يحاذي الوجه الشريف.. هنالك وقفت النفس بالمركز الذي ينبغي لها تلقاء هذا الجلال وهذه العظمة، فكنت ترى الروح بمجموعه، والقلب بخضوعه، والطرف بدموعه، واللسان بخضوعه...".
وثيقة تاريخية
ويحسب للمؤلف أنه جمع في كتابه بين أدب الرحلة وكتابة التاريخ ووصف الآثار، وهو ما أعطى الكتاب أهمية كبيرة في كونه احتفظ لنا بمعلومات مهمة عن كثير من الآثار الإسلامية التي هدمت بعد قيام الدولة السعودية، وكانت من روائع الفن الإسلامي.
كما ذكر الكتاب معلومات مهمة عن القبائل العربية الموجودة هناك، وأماكن وجودها، وعدد أفرادها، وعن تركيبة السكان في مكة والمدينة، وطبيعة الحياة الاقتصادية بهما، وكانوا أخلاطا من أجناس شتى من الهند وجاوة وبخارى والشام ومصر واليمن، وقد وصل هذا الخلط إلى أزيائهم ولغاتهم، فيتكلمون في الغالب بلغة يكثر فيها الحشو من كلمات عربية مشوهة أو فارسية أو تركية.
واحتوى الكتاب على بحوث تاريخية عن تاريخ الحرمين المكي والمدني وعمارتهما، وما طرأ عليهما من تطور في البناء والعمارة، ووصف دقيق لهما على الصورة التي رآها، وبحوث فقهية عن أحكام الحج التي قدمها تحت عنوان "كيف تحج أيها المسلم؟".
كما تحدث الكاتب عن كسوة الكعبة ومصاريفها التي كانت تنفق عليها، وبيان مفرداتها، وذكر أن مصروفات الكسوة التي كانت تصرف من المالية في وقته كانت تبلغ ميزانيتها 4450 جنيها.
ومما قال: "إن الكسوة كانت تصنع في القاهرة سنويا، وعند الانتهاء منها يعمل لها موكب عظيم في نحو منتصف شهر ذي القعدة، يحضره جناب الخديوي أو من ينوب عنه، وينتهي بها الموكب إلى مسجد الحسين، حيث تسلم في مجلس يعقد في المسجد في حضور أمير الحج للسنة المرسلة فيها".
ويذكر البتنوني تفصيلات دقيقة فيما يتصل بالمحمل المصري، والأموال التي تنفق عليه، والمرتبات التي كانت تجريها مصر على الأشراف بمكة والمدينة المنورة، والأموال التي تخصصها للتكية المصرية في مكة والمدينة.
الحجرة النبوية
ومن أطرف ما كتبه البتنوني كان عن المقصورة الشريفة في المسجد النبوي، وهي من النحاس الأصفر، وكانت قد صنعت في مصر في عهد "قايتباي" سلطان مصر، وفي داخل المقصورة الحجرة الشريفة، وهي المكان الذي توفِّي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويذكر أن السلطان "نور الدين محمود" بلغه في سنة 557هـ أن الصليبيين كانوا يعدون لسرقة جثمان النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بإحاطة بناء الحجرة الشريفة ببناء آخر نزل بأساسه إلى أعماق بعيدة، ثم صب الرصاص على دائرة بحيث لا يمكن أن تتناوله يد الزمان.
وكان أول من كسا الحجرة الشريفة "الخيزران" أم الخليفة "هارون الرشيد" عندما قدمت في حجها لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وصارت من بعدها سنة الملوك والسلاطين، وبين المقصورة المبنية والشبكة النحاسية الخارجية طرقة سعتها نحو ثلاثة أمتار. وفي إحدى زواياها كرسي موضوع عليه مصحف شريف كبير أهداه إلى الحجرة الشريفة الحجاج بن يوسف الثقفي. ويذكر البتنوني أن سقف هذه الطرقة مملوء بثريات الذهب والفضة، منها إحدى وثلاثون مرصعة بالماس والزمرد والياقوت.
وفي مقابل الوجه الشريف على جدار المقصورة حجر كبير من الماس يحيط به تركيبة من الذهب المرصع، وهذا الحجر في حجم بيضة الحمام الصغيرة، ويقدرون ثمنه آنذاك بثمانمائة ألف جنيه، ويسمون هذا الحجر بالكوكب الدري لشدة تألقه وعظيم سنائه وبهائه، وكان قد أهداه للحجرة السلطان العثماني "أحمد خان الأول".
ويقدر المؤلف جملة ما في الحجرة النبوية الشريفة من جواهر وشمعدانات ذهبية ومكانس من اللؤلؤ، والمصاحف المرصعة بحوالي سبعة ملايين جنيه. ويذكر المؤلف أن في مطلع القرن الثالث عشر الهجري كانت الحجرة الشريفة عامرة بما لا يُحصى من الذخائر الثمينة، لكنها تعرضت للنهب في سنة 1221هـ=1806م.
مشهد ثقافي مسجل
وقد سجل المؤلف الحياة الثقافية في الحجاز في أثناء قيامه بالحج، فذكر أن بمكة مدرستين، أشهرهما المدرسة الأصولية التي بناها الشيخ "رحمة الله الهندي" صاحب كتاب "إظهار الحق"، وكان يُدرَّس فيها القرآن الكريم والتجويد، وشيء من اللغة العربية والحساب والهندسة، وينفق عليها من تبرعات أهل الهند.
ويذكر أن المدرسة الأخرى يقوم عليها الشيخ يوسف محمد الخياط، وهي لا تختلف عن الأولى كثيرًا. وليس بمكة مكتبة عامة تذكر سوى مكتبة صغيرة في باب النبي، وأخرى في باب السلام تسمى بـ"الكتبخانة السليمانية"، وليس لهما نظام في العمل.
كما يذكر أنه كان يصدر بمكة جريدة بالتركية والعربية، اسمها "الحجاز" وهي أشبه بجريدة رسمية، كل ما فيها تقريبا يتعلق بأخبار الحكومة وإعلاناتها.
أما في المدينة فيذكر المؤلف أن ليس بها من المدارس ما يستحق الذكر، وما يدرس في الحرم النبوي هو شيء يسير من الفقه والتفسير، وبها مكتبة شيخ الإسلام "عارف حكمت" وهي مكتبة عامرة، آية في النظافة، وحسن الترتيب والتنسيق، وفيها كتب ثمينة. وبالمدينة أيضا مكتبة السلطان محمود، وهي أقل حجما من الأولى.
والكتاب وإن كان يدخل في أدب الرحلة، فإنه يُعَدّ وثيقة تاريخية مهمة عن الحجاز في مطلع القرن العشرين، حشد فيه المؤلف معلومات مهمة عن الحياة في الحرمين الشريفين.
منتديات التاريخ
مؤلف الكتاب: هو "محمد لبيب البتنوني" وهو كاتب مصري له اشتغال بالأدب والتاريخ، وتُوفِّي بالقاهرة سنة 1357هـ=1938م.
ويعتبر كتاب "الرحلة الحجازية" تسجيلا لرحلة معروفة قام بها الخديوي عباس حلمي لأداء فريضة الحج سنة 1327هـ= 1909م، وقد صاحب الخديوي في حجه عدد من كبار رجال الدولة أمثال: "أحمد شفيق" باشا المؤرخ المعروف، وأحمد خيري ناظر الأوقاف، والشيخ "محمد شاكر" وكيل مشيخة الأزهر الشريف.
وكان ضمن حاشية الخديوي الشاعر الكبير "أحمد شوقي"، لكنه تخلف عن هذه الرحلة، ثم اعتذر للخديوي حين عودته من الحج، فقبل اعتذاره لمكانته عنده، وقد كتب أحمد شوقي قصيدة خالدة بهذه المناسبة بعنوان "إلى عرفات"، منها:
إذا زرت - يا مولاي- قبر محمد
وقبَّلت مثوى الأعظم العطرات
وفاضت مع الدَّمع العيون مهابة
لأحمد بين الستر والحجرات
وأشرق نور تحت كل ثريَّة
وضاع أريج تحت كل حصاة
فقل لرسول الله: يا خير مرسل
أبثك ما تدري من الحسرات
شعوبك في شرق البلاد وغربها
كأصحاب كهف في عميق سبات
أحداث الرحلة
الخديوي عباس حلمي
ذكر مؤلف "الرحلة الحجازية" أن عباس حلمي خديوي مصر كانت تتوق نفسه إلى أداء فريضة الحج، وأن هذه الأمنية كانت تتردد في نفسه من عام إلى آخر حتى حسم أمره، وعزم على أداء الفريضة في سنة 1327هـ=1909م وفي صحبته والدته وكثير من أميرات الأسرة المالكة.
وقد تتبع المؤلف أحداث الرحلة منذ أن تحركت من القاهرة في صباح يوم 29 من ذي القعدة 1327هـ=12 من ديسمبر 1909م حتى نزولها بمكة في الثالث من ذي الحجة، ووصف موكب الخديوي وهو يدخل مكة من باب جرول حتى دخل الحرم المكي، وطاف طواف القدوم، وخرج إلى السعي بين الصفا والمروة.
ويذكر أن عباس حلمي لم يتجرد عن فخامته فقط، بل عن مظاهر الدنيا بأجمعها. كما يذكر أنه سعى بين يدي الله سبعة أشواط، وبعد السعي قصد دار الإمارة التي أعدت لتكون مكان إقامته مدة وجوده في مكة، وهذه الدار كان قد بناها "محمد علي" والي مصر سنة 1228هـ لتكون مقرا لحكومة الحجاز.
وأقام البتنوني بمكة في صحبة الخديوي عباس، يزور معه معالم مكة وآثارها، حتى خروج الحجاج إلى عرفات في التاسع من ذي الحجة، ويصور بقلمه هذا المشهد تصويرا بارعا، "حيث يتحرك المحملان المصري والشامي إلى منحدر جبل الرحمة، ويصعد خطيب عرفة بناقته وهو في الغالب قاضي مكة من قبل السلطان العثماني، إلى صخرة في صدر هذا الجبل، ويخطب نيابة عن السلطان خطبة يُعلم الناس فيها مناسك الحج، ويكثر فيها من الدعاء والتلبية، ومن دونه مبلغون بأيديهم مناديل يشيرون بها في كل تلبية إلى الواقفين دون الصخرة، فيهتف الجميع: "لبيك اللهم لبيك".
ويصور المؤلف هذه الساعة الممتلئة بالمشاعر الصادقة الفياضة، والتضرع الخالص بقوله: "فيا لها من ساعة ترى الناس فيها قد تجردوا بالمرة عن أنفسهم فلا يكادون يشعرون بما يحيط بهم من معالم الحياة، وقد تغلب وجدانهم على وجودهم، حتى كأنهم في لباسهم الأبيض الطاهر النقي ملائكة الله في هذا الوادي الذي يردد صدى أصواتهم وابتهالاتهم إلى واجد الوجود، إلى الملك المعبود.. ثم يعود إليهم صدى هذا الصوت فيحدث في نفوسهم هزة تدق لها قلوبهم، وتضطرب منها أفئدتهم خشية من رب الأرباب".
والمؤلف في أثناء ذلك يسجل موكب الخديوي الذي خرج في صباح يوم التروية من مكة إلى عرفة، وهو بملابس الإحرام راكبا جواده، ومن خلفه رجال معيته وحاشيته، فوصلها في الرابعة ظهرا وظل واقفا مع كبار رجال دولته حتى نفر الناس فنفروا معهم إلى المزدلفة، وبعد صلاة الصبح نزل في موكبه إلى منى فرمى جمرة العقبة، وذُبحت الأضاحي بحضوره، وتحلل من إحرامه، ثم نزل إلى مكة بموكب حافل ومعه أميرها، فصليا العيد في الحرم الشريف.
في المدينة المنورة
وبعد أن انتهى الخديوي من أداء مناسك الحج ذهب بموكبه الحافل إلى المدينة المنورة، ودخل ومعه بعض رجال دولته المسجد النبوي من باب السلام، وزار الروضة الشريفة.
ويذكر البتنوني أن الخديوي كان مدة وجوده بالمدينة يكثر من الصلاة في الحرم، ولا تفوته صلاة، ويقوم بخدمة إسراج القناديل الموجودة في الحجرة النبوية الشريفة، وإطفائها في الصباح، وكانت هذه الخدمة مما يحرص عليه الأمراء والعظماء وغيرهم من أعيان المسلمين في أثناء زيارتهم للمسجد النبوي.
أما عن المؤلف فقد تحدث عن تجربته الروحية وهو يدخل المسجد النبوي، ويزور الروضة الشريفة، فيقول: "وصلينا ركعتين في الروضة الشريفة تحية للمسجد، ثم خرجنا إلى الرواق القبلي، واتجهنا إلى المقصورة الشريفة، وتمثلنا بمنتهى ما يمكن من الخضوع والاستكانة أمام أول باب منها تجاه مسمار من الفضة جعل أمام الكوكب الدري الذي وضع فيما يحاذي الوجه الشريف.. هنالك وقفت النفس بالمركز الذي ينبغي لها تلقاء هذا الجلال وهذه العظمة، فكنت ترى الروح بمجموعه، والقلب بخضوعه، والطرف بدموعه، واللسان بخضوعه...".
وثيقة تاريخية
ويحسب للمؤلف أنه جمع في كتابه بين أدب الرحلة وكتابة التاريخ ووصف الآثار، وهو ما أعطى الكتاب أهمية كبيرة في كونه احتفظ لنا بمعلومات مهمة عن كثير من الآثار الإسلامية التي هدمت بعد قيام الدولة السعودية، وكانت من روائع الفن الإسلامي.
كما ذكر الكتاب معلومات مهمة عن القبائل العربية الموجودة هناك، وأماكن وجودها، وعدد أفرادها، وعن تركيبة السكان في مكة والمدينة، وطبيعة الحياة الاقتصادية بهما، وكانوا أخلاطا من أجناس شتى من الهند وجاوة وبخارى والشام ومصر واليمن، وقد وصل هذا الخلط إلى أزيائهم ولغاتهم، فيتكلمون في الغالب بلغة يكثر فيها الحشو من كلمات عربية مشوهة أو فارسية أو تركية.
واحتوى الكتاب على بحوث تاريخية عن تاريخ الحرمين المكي والمدني وعمارتهما، وما طرأ عليهما من تطور في البناء والعمارة، ووصف دقيق لهما على الصورة التي رآها، وبحوث فقهية عن أحكام الحج التي قدمها تحت عنوان "كيف تحج أيها المسلم؟".
كما تحدث الكاتب عن كسوة الكعبة ومصاريفها التي كانت تنفق عليها، وبيان مفرداتها، وذكر أن مصروفات الكسوة التي كانت تصرف من المالية في وقته كانت تبلغ ميزانيتها 4450 جنيها.
ومما قال: "إن الكسوة كانت تصنع في القاهرة سنويا، وعند الانتهاء منها يعمل لها موكب عظيم في نحو منتصف شهر ذي القعدة، يحضره جناب الخديوي أو من ينوب عنه، وينتهي بها الموكب إلى مسجد الحسين، حيث تسلم في مجلس يعقد في المسجد في حضور أمير الحج للسنة المرسلة فيها".
ويذكر البتنوني تفصيلات دقيقة فيما يتصل بالمحمل المصري، والأموال التي تنفق عليه، والمرتبات التي كانت تجريها مصر على الأشراف بمكة والمدينة المنورة، والأموال التي تخصصها للتكية المصرية في مكة والمدينة.
الحجرة النبوية
ومن أطرف ما كتبه البتنوني كان عن المقصورة الشريفة في المسجد النبوي، وهي من النحاس الأصفر، وكانت قد صنعت في مصر في عهد "قايتباي" سلطان مصر، وفي داخل المقصورة الحجرة الشريفة، وهي المكان الذي توفِّي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويذكر أن السلطان "نور الدين محمود" بلغه في سنة 557هـ أن الصليبيين كانوا يعدون لسرقة جثمان النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بإحاطة بناء الحجرة الشريفة ببناء آخر نزل بأساسه إلى أعماق بعيدة، ثم صب الرصاص على دائرة بحيث لا يمكن أن تتناوله يد الزمان.
وكان أول من كسا الحجرة الشريفة "الخيزران" أم الخليفة "هارون الرشيد" عندما قدمت في حجها لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وصارت من بعدها سنة الملوك والسلاطين، وبين المقصورة المبنية والشبكة النحاسية الخارجية طرقة سعتها نحو ثلاثة أمتار. وفي إحدى زواياها كرسي موضوع عليه مصحف شريف كبير أهداه إلى الحجرة الشريفة الحجاج بن يوسف الثقفي. ويذكر البتنوني أن سقف هذه الطرقة مملوء بثريات الذهب والفضة، منها إحدى وثلاثون مرصعة بالماس والزمرد والياقوت.
وفي مقابل الوجه الشريف على جدار المقصورة حجر كبير من الماس يحيط به تركيبة من الذهب المرصع، وهذا الحجر في حجم بيضة الحمام الصغيرة، ويقدرون ثمنه آنذاك بثمانمائة ألف جنيه، ويسمون هذا الحجر بالكوكب الدري لشدة تألقه وعظيم سنائه وبهائه، وكان قد أهداه للحجرة السلطان العثماني "أحمد خان الأول".
ويقدر المؤلف جملة ما في الحجرة النبوية الشريفة من جواهر وشمعدانات ذهبية ومكانس من اللؤلؤ، والمصاحف المرصعة بحوالي سبعة ملايين جنيه. ويذكر المؤلف أن في مطلع القرن الثالث عشر الهجري كانت الحجرة الشريفة عامرة بما لا يُحصى من الذخائر الثمينة، لكنها تعرضت للنهب في سنة 1221هـ=1806م.
مشهد ثقافي مسجل
وقد سجل المؤلف الحياة الثقافية في الحجاز في أثناء قيامه بالحج، فذكر أن بمكة مدرستين، أشهرهما المدرسة الأصولية التي بناها الشيخ "رحمة الله الهندي" صاحب كتاب "إظهار الحق"، وكان يُدرَّس فيها القرآن الكريم والتجويد، وشيء من اللغة العربية والحساب والهندسة، وينفق عليها من تبرعات أهل الهند.
ويذكر أن المدرسة الأخرى يقوم عليها الشيخ يوسف محمد الخياط، وهي لا تختلف عن الأولى كثيرًا. وليس بمكة مكتبة عامة تذكر سوى مكتبة صغيرة في باب النبي، وأخرى في باب السلام تسمى بـ"الكتبخانة السليمانية"، وليس لهما نظام في العمل.
كما يذكر أنه كان يصدر بمكة جريدة بالتركية والعربية، اسمها "الحجاز" وهي أشبه بجريدة رسمية، كل ما فيها تقريبا يتعلق بأخبار الحكومة وإعلاناتها.
أما في المدينة فيذكر المؤلف أن ليس بها من المدارس ما يستحق الذكر، وما يدرس في الحرم النبوي هو شيء يسير من الفقه والتفسير، وبها مكتبة شيخ الإسلام "عارف حكمت" وهي مكتبة عامرة، آية في النظافة، وحسن الترتيب والتنسيق، وفيها كتب ثمينة. وبالمدينة أيضا مكتبة السلطان محمود، وهي أقل حجما من الأولى.
والكتاب وإن كان يدخل في أدب الرحلة، فإنه يُعَدّ وثيقة تاريخية مهمة عن الحجاز في مطلع القرن العشرين، حشد فيه المؤلف معلومات مهمة عن الحياة في الحرمين الشريفين.
منتديات التاريخ